|
في انكسار الروح لاتتركني وحيدة |
كان آدم يروي أزهار حديقة منزله في الصباح الباكر، و صوت فيروز الشجي يصدح "يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا" ، يدندن معها ويسقى وردة الجوري المائلة إلى احمرار يشتمّها: آه على رائحتك الأخاذة وعبقك الزكي، ما رأيت أجمل منك يا وردتي الجميلة، سمعت كلماته تلك الفتاة التي كانت ترشف فنجان القهوة على شرفتها المطلة على منزل آدم، ظنت أنه يتحرش بها : آدم.. أليس من الأدب أن تكف عن الكلمات المبتذلة؟ ما هذا الصباح يا إلهي!
دهش آدم ولم ينبس ببنت شفة، وتذكر محاولاته الفاشلة آنذاك في الحصول على قلب جولي، تلك الفتاة التي لم تتخطى العشرين عاماً، ذات الضفائر الذهبية، على قدٍّ كالآس عيون لوزية تتوشح بلون أخضر، ووجه بريء كالأطفال بنعومته، يشهد أهالي الحي أنها ملفتة لقلوب الشبان، وجميعهم يحاولون أن يلفتوا انتباهها لكنها تأبى أن تلتفت إلى أحد.
قالت حينما التزم الصمت: نعم هذا ما أنت مبدع فيه أن تتحرش بي وعندما أواجهك يأكل القط لسانك، عاد إلى رشده وما زال يمسك بإبريق الماء ينظر إليها وعيناه توسعت حدقتها وفمه مفتوح: جولي أعلم بأنك جميلة كجمال هذه الوردة التي أرعاها، وأعلم أيضا أنه لا يلفت انتباهك شخصٌ مثلي، لكن أتغزل بوردتي الجميلة وليس بك، ما شأني بك ولم ألاحظك حتى .
تورد خد جولي و طأطأت رأسها إلى الأسفل ولم تدرك حينها إلى أين تذهب بحيائها، أوقعت من يدها فنجانها وتلطخ فستانها الأنيق والذي ستذهب به إلى جامعتها.
مرّ أسبوعٌ على تلك الحادثة، لم يشاهدها ضمن هذه المدّة، تردد كثيراً بأن يسأل عنها لائماً نفسه أنه قد قسى عليها بكلماته من دون أيّ اهتمام لمشاعرها، ولكن بينه وبين نفسه يحبها حباً جماً، يراوده الشك بأن هناك خطب ما قد حدث وأبى أن يذهب إليها لأنه ولد في عائلة شعارها عزة النفس وهي أسمى ما يتسم به الرجل، لن يرضخ لفتاة مهما حدث فسيتعير من قبل أهله، هناك ألف فتاة تريدك، لم تقف الدنيا عند هذه الفتاة أو تلك، ما الذي ينقصك، وكثيرٌ كثير من الجمل التي ترددت في ذهنه ، حينما صارحهم بأن جولي قد رفضته في عدة محاولات، وبين صد ورد بينه وبين واقعه بين أهله ،
حدثت المفاجأة - قرر أن يكسر عزة نفسه، ويخرج عن القاعدة -
ماذا؟ هل أنت مجنون ماذا دهاك؟ عقله يضخ بالأفكار وقلبه يضخ بالمشاعر، أيتبع قلبه أم عقله؟ صراع شتت آدم ، لكن آن الآوان أن يرضخ لحكمة القلب لأنه لا يكذب حين الحب يقع فإنه يشعر إن كان حدث قد حصل أم لا، فالأرواح حين اعتناقهما يتأصل بروح واحدة في جسدين منفصلين، ما إن تألم جسد شعر الآخر به..
|
في انكسار الروح لاتتركني وحيدة |
ارتدى ثيابه وتعطر بعطره المعروف "بلو تشانيل" و حدد وجهته نحوها دون أن يأبه لثرثرة أقاربه، صعد درج بنايتها إنه في الطابق الأول قلبه يخفق..
صعد إلى الثاني ازداد خفقانه، وحين وصل إلى بابها في الطابق الثالث، وقد اشتد وزر قلبه وغليانه ،حاول أن يطرق بابها، تردد وانسحب قال قلبه: لا تتوانى افعلها، عقله: الانسحاب أفضل لك، وقف مع صراع في أفكاره وتوقف الزمن به على حين غرة،عندما رأى يده من دون أن يشعر بها وكأن أحد هو الذي يرفعها ليطرق باب جولي، دقة دقتان ثلاث دقات.. الزمن لا يتحرك الضجيج قد توقف من حوله، نظر إليها بتمعن حين فتحت له الباب..
ارتمت جولي بين ذراعيه، شاحبة اللون، جسمها نحيل أكثر، تتعرق كثيراً، لمس جبينها وإذ حرارتها مرتفعة، قال آدم : جوولي ماذا دهاك؟، لم يدرك أن يفرح بأنها بين ذراعيه أم يحزن لما أصابها، وبدون أن يتلكأ حملها بين ذراعيه، وذهب بها إلى أقرب طبيب،
نزل إلى أسفل البناية من دون أن يشعر بثقلها، جال في الطرقات يبحث عن سيارة أجرة، مرّت أكثر من خمس سيارات ممتلئة، إلى حين أوقف السادسة رامياً نفسه أمامها، صرخ صاحب السيارة أأنت مجنون؟؟، فقال له: أناشدك الله بأن تذهب بي إلى أقرب طبيب، فنظر السائق إلى ما بين يديه: ماذا حصل؟ مما تشكو؟، فقال له لا أعلم، ساعده الرجل بحملها وذهبا بها إلى الطبيب، إنه على بعد شارعين عن عيادة الطبيب فواز المتخصص بالأمراض المستعصية.
رأت السكرتيرة الشاب والسائق وبيديهما الفتاة، هرعت نحوهما ونادت الطبيب: دكتور فواز أسرع هناك حالة إسعافيه، لم يتوانى لحظة أدخلها إلى عيادته، وبدأ يتفحص ضغطها ويقيس حرارتها ،وبعد فحص دقيق لها تعرق الطبيب لأنه في تلك الفترة ظهر مرض جديد يدعى "كوفيد 19 " يصيب الشعب الهوائية ويتملك في جسد المريض إن لم يعالج في فتراته الأولى قد يودي بحياة المصاب به، فقال : اذهبا إلى الخارج ولا تخالطان أحد لعشرة أيام، دهشا ولم ينبسا ببنت شفة، لا تقل لنا أنه ذاك المرض الذي تتحدث عنه الإذاعات ومواقع الانترنت، رد الطبيب: أشك في ذلك، احجرا نفسيكما لخمسة أيام إن ظهر عليكما أي أعراض عودا إليّ، تعرق السائق وشحب لونه، و آدم لم يأبه لأي شيء إلا أن يطمأن عن جولي فقال له : سأبقى معها مهما حصل إن كان الخبر صحيح فأحب أن أشاطرها إياه،
بعد مناوشات كثيرة بينه وبين الطبيب وافق بأن يظل في الغرفة المجاورة لها والتي هي غرفة خالية من كل شيء إلا سرير وبجانبه أريكة، و بعيدا عن الناس وألبسه الكمامة وعقم يديه بحيث لا يصافح أحد، أخذ الطبيب عينة من جولي ليرسلها إلى المخبر، لكن عليه أن ينتظر ثلاثة أيام إلى أن تظهر النتيجة.
|
في انكسار الروح لاتتركني وحيدة |
قرر الطبيب أن يجعل الغرفة المجاورة مكان عزل ل آدم ولها لأنه يخشى ان يكون مصاب، فلم يرسله إلى منزله وأبقى عليه هناك، وبرفقتهما ممرضة متمرسة تتناوب عليهما إلى أن يأتي الطبيب، بعد الرفض الشديد من آدم أن يذهب إلى قسم العزل في المستشفى، لقد مرت السويعات الأولى كأنها دهرٌ، يجول في الغرفة ذهاباً وإياباً، والغريب أنه لم يسأل أحد عنها.
حتى اتصل به صديقه العزيز أحمد، تردد في الإجابة عليه لكن يحتاج إلى النقود كي يبقى لثلاثة أيام، رد عليه: آدم ماذا هناك أين أنت؟، قطعت دموع آدم حديث أحمد حين قال له: صديقي ساعات قليلة لدي ولا أعلم ماذا سيحدث بعدها، أريد منك أن ترسل لي نقوداً فأنني عند الطبيب ، يرشح أن أكون مصاب بذاك المرض اللعين، صعق أحمد : كيف ذلك ومتى؟ رد آدم: سأخبرك لاحقاً هذا العنوان من فضلك ابعث لي نقوداً، وقطع الاتصال..
مر اليوم الثاني وعيون آدم لم تعرف النوم ولو لدقائق، فيراوده كابوس أن سيفقدها غير آبه أنه مصاب أم لا، والغريب ألا أحد قد سأل عنها لا أهلها ولا أصدقائها في الجامعة، أخذ آدم هاتفها الخليوي الموجود في جيبها يتفحصه، لا أحد سوى رسائل شركة الاتصالات.
ها قد حان اليوم الأخير لمعرفة النتيجة، كان ذلك اليوم الخامس من شهر أيلول الخريفي ينذر بالتشاؤم، أتت التحاليل والطبيب يقرأها بتمعن، أنصت أدم بشدة سينهار عما قريب فالتعب قد أحال بحاله..
نطق الطبيب بتلك الكلمات: آدم إنها مصابة فعلاً، أريد منك أن تكون قوياً، سنتجاوزه معاً بالإرادة، انهار آدم أمامه، لكن يشعر بأن هناك قوة بداخله تقول له أنها ستنتصر على المرض..
بدأت رحلة العلاج ولم تظهر على آدم أي أعراض فإنه يبقى على قوته كي يرعاها، تعامل معها وكأنها قطعة منه، رغم كل شيء يحبها، وما لفت انتباهه أن لا أحد يهتم بها وبشأنها..
إنه اليوم السادس من رحلة العلاج حتى تكلمت إحدى صديقاتها، ورد آدم عليها وحين سماع الخبر أقفلت الخط ولم تعاود الاتصال وكذلك فعل أهلها، ظناً منهم أن المرض يعاب به بعدما سمع أمها قائلة له: لا تخبر أحد به، لقد ألحقت بنا العار، ماذا عار أهي جريمة شرف؟ ما هذه العقول بحق السماء؟
تتوالى رحلة العلاج يوما بعد يوم:
وظلت جولي وحيدة تتعافى، وآدم معها يقتات من الطعام القليل كي يحافظ على رباطة جأشه.
اليوم التاسع لم تعد الحرارة كما السابق فاستقرت، لكنها تجد صعوبة في التنفس، رأت آدم متكأ على الأريكة، لم تستطع أن تكلمه، ولكن دموعها تتعزز على خديها، استيقظ آدم و رآها، وعلى عجل ذهب إليها و بطرف يديه أزال دموعها وقال لها: ستنتصرين لا تأبهِ أنت أقوى من المرض، وهي تبكي، فلا أحد بجوارها من الأصدقاء ولا الأهل فقد لفظوها وكأنها عائبة، الشعور بالخذلان من أعز المقربين لك هي أصعب ما يمر به الشخص، المفارقة كانت جارحة، تناول هاتفه وبدأ يقص عليها مواقف مضحكة قد حصلت وتارة يقص عليها بضع حكايات عن نساء كيف صمدت إلى أن نالت الشفاء مثل بسمة وهبة الإعلامية المصرية انتصرت على السرطان و كيلي مينوغ الاسترالية أيضا وغيرهن، يبث في جوفها الأمل كي لا تفقده أبداً ليتسع بها نحو طريق الشفاء، وبقي اليوم تلو الآخر يضحكها ويشجعها على الحياة حتى تتناسى ما حل بها.
إنه اليوم الرابع عشر، حان موعد أخذ عينة أخرى كي تتأكد من سلامتها، أخذ الطبيب العينة وانتظر النتيجة لثلاثة أيام كالعادة، وفي هذه الأثناء ارتد لونها كما كان من قبل، ومشى في جوفها نشاط كبير، لكن مازال وهن يصيب أعضائها حين تتحرك، لكن لا بأس ستتحسن فيما بعد، أخذ آدم يدها يجعلها تمشي رويدا رويدا في أنحاء الغرفة، ويوم بعد يوم تتماثل بالتحسن إلى أن أتى اليوم الآخير للنتيجة النهائية للعينة.
ترقبا بصمت وكان يده على قلبه ويدها بيده الأخرى، في الخارج كان رذاذ المطر يطرق على تلك النافذة، وقلبهما يشارك تلك الدقات، كل شيء أصبح يشاركهما من حولهما إلى أن اعلن النتيجة: مبارك لكما انتصرتما وأخيرا، هنيئا لصمودكما، ومن شدة فرحهما لم يتوانا على ضم بعضهما البعض ودموع الفرح تتساقط راقصة بين هدبهما وأخذ بيدها للخارج تحت المطر يراقصها ناسياً بذلك أنه ليس حبيبها بل حبه من طرفه فقط، أدرك بعد لحظات حين قاطعهما الطبيب : بني لا تجعلها تتبلل فجسمها هزيل الآن أي مرض ستتدهور حالتها، اخرجها بسرعة واحتمى تحت شرفة العيادة، وهما بالرحيل بعدها وعندما أوصلها إلى منزلها وقبل أن يغادرها قالت له: لا تتركني وحيدة.
بقلمي: صالح شاهين