مؤسسة سطر لصناعة المُحتوى العربي 4/13/2022 06:26:00 م
نظرة عابرة على الغنوصية وأهم ما دار حولها - تصميم ريم أبو فخر
نظرة عابرة على الغنوصية وأهم ما دار حولها
 تصميم ريم أبو فخر
تتميز |الغنوصية| عن غيرها من الفلسفات بكثرة غموضها وإثارتها وتناقض الأفكار والآراء حولها وحتى بين أفرادها ومدارسها، لدرجة أن علماء الأديان اختلفوا حول ماهيتها ووصفها، فهل هي مجرد |فلسفة|؟ أم أنها ديانةٌ مستقلةٌ بنفسها؟ أم هي ظاهرةٌ دينيةٌ موجودةٌ ضمن عدة ديانات؟ ولكن بغض النظر عن كل ذلك، فإنها تعرض مجموعةً من أفضل وأعمق الأفكار الدينية في تاريخ الإنسانية، ولا ينقصها التنوّع والتحرّر، فهي لا تلتزم بعقيدةٍ دينيةٍ محددة، فهي مجموعةٌ كبيرةٌ من الأفكار والاتجاهات والتيارات الفكرية المتنوعة والمختلفة دون أن تصبح متصارعة، بل هي تُغني بعضها البعض.

أصل كلمة غنوصية

جاءت كلمة غنوصية من الكلمة الإنكليزية "Gnosticism" المأخوذة عن الكلمة اليونانية "Gnosis" ومعناها المعرفة أو العرفان، ولذلك تستخدم بعض المراجع العربية مصطلح العرفانية للدلالة على الغنوصية، وإذا كانت جميع الأديان تتميز بثلاث خصائص هي العقيدة والأسطورة والطقوس، فإن الغنوصية لا تمتلك عقيدةً دينيةً واحدة، بل عقائدها متنوعة، أما الطقوس فهي معدومةٌ عند الغنوصيين، ولهذا قد لا يصحُّ أن نعتبرها ديانةً بل فلسفة.

الكن الأول في الغنوصية (الأسطورة)

تمتلك الغنوصية أسطورتها الخاصة والفريدة حول نشأة الكون، فهي تقول بأنه في البدء لم يوجد سوى الإله الحقيقي، الذي يسميه الغنوصيون بالإله النوراني أو الأب أو الأب النوراني، والذي نشأت عنه مجموعةٌ من الكائنات النورانية يسميها الغنوصيون بالأيونات، ويطلقون على هذا العالم المكون من الأب والكائنات النورانية اسم العالم النوراني، ويشيرون إلى هذا العالم عادةً بمصطلح الملأ الأعلى.

خلق الإنسان حسب المعتقدات الغنوصية

تقول الغنوصية بأن آخر الأيونات التي ظهرت عن الإله النوراني كان يدعى "صوفيا"، وقد تواجدت صوفيا على أطراف العالم النوراني، وعندما انتابتها الرغبة الشديدة بخلق كائنٍ يشبهها قامت بخلق ذلك الكائن دون موافقة الأب، فكان ما خلقته مجرد مسخ، ويصوّر الغنوصيون ذلك الكائن بما يشبه أفعى برأس أسد، ويسمونه "يلدابوث"، أو الأحمق أو الإله الأعمى "سمائيل"، ولكن أشهر أسمائه هي الإله الخالق أو الإله الصانع، لأنه خلق السماوات والأرض والإنسان وفرض عليه الشريعة.

كيف خلق "سمائيل" الإنسان وعلى أية صورة

استغلّ الإله الصانع قدرته على الخلق التي ورثها من والدته صوفيا، فخلق السماوات والأرض وبقية المخلوقات، ثم استغل لحظة إطلالة الإله النوراني على العالم المادي لتنعكس صورته على الماء، فأمر أتباعه الذين يحملون اسم "أراكنة" أن يخلقوا كائناً على صورة الإله النوراني فخلقوا الإنسان، ولكن ذلك الإنسان كان جسداً ميتاً بلا روح، فلجأ الإله الصانع إلى والدته التي توسّلت إلى الأب النوراني كي يغفر لها ما سلف ويسمح بإحياء الإنسان، فاستجاب لها، وأمر الإله الأدنى أن ينفخ في أنف الإنسان من روحه لكي يحيى.

الخروج من الجنة

أخذ الإله الأدنى الانسان الذي يسميه الغنوصيون "|آدم|" وأسكنه في الجنة، وخلق له رفيقة، وأمرهما أن يفعلا ما يريدان ما عدا ان يأكلا من ثمرة شجرة المعرفة، ولكن الإله النوراني أشفق عليهما فأرسل لهما حيةً لكي تحثّهما على تناول تلك الثمرة، فاستجابا لها وأكلا من الثمرة، فانفتحت عيونهما على المعرفة، وأدركا حقيقة النور في داخلهما القادم من الإله، فغضب الإله الأدنى وعاقبهما بالخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض، وفرض عليهما القيود الدينية والشريعة.

نظرة عابرة على الغنوصية وأهم ما دار حولها - تصميم ريم أبو فخر
نظرة عابرة على الغنوصية وأهم ما دار حولها
 تصميم ريم أبو فخر
بعد أن تحدثنا عن أسطورة التكوين الغنوصية يجب أن نعرف بأن تفاصيل تلك |الأسطورة| ليست نفسها في مختلف أدبيات الغنوصية، ولكنها تتشارك في الجوهر.

عقيدة العرفان "المعرفة" الغنوصية

تعتبر العقيدة من الأركان الأساسية لأية ديانة، وتتبلور عقيدة العرفان الغنوصية حول محاولة معرفة الإله الحقيقي من خلال معرفة النفس البشرية والروح التي هي جزءٌ من ذلك الإله، وبالتالي يمكن التحرّر من شهوات ونزعات وقيود الجسد المادي من أجل الوصول إلى الخلاص، وهنا نجد أن الغنوصية تتشابه مع الديانات التي تعتبر من ديانات الخلاص، مثل |المسيحية| التي تعتبر أن السيد المسيح وكل ما حدث معه كان من أجل خلاص البشرية وعودة البشر إلى أحضان الله.

الغنوصية المسيحية والمثنوية

ترى الغنوصية المسيحية بأن |السيد المسيح| هو رسول الإله النوراني إلى البشر، لكي ينبههم إلى جهلهم وزيف عباداتهم للإله المادي الأدنى الذي فرض عليهم القيود والشرائع، ولكي يرشدهم إلى الإله النوراني الحقيقي، أما العقيدة الرئيسية الثانية في الغنوصية فهي عقيدة المثنوية، التي تقوم على الفصل بين المادة والروح، ما بين العالم المادي والعالم النوراني، وبالتالي الفصل بين الإله المادي الأدنى والإله النوراني الحقيقي، وكذلك بين جهل الإنسان الذي يقوده إلى عبادة الإله المادي الزائف وتقييده بمظاهر التدين الزائفة، وبين معرفة الأب النوراني.

تعدد المدارس الغنوصية وتنوعها

تقترب المثنوية الغنوصية من مبدأ المثنوية في الأديان الفارسية القديمة مثل |الزردشتية|، ويمكن أن نستنتج الكثير من المعتقدات الغنوصية المتقاطعة معها، ولكن يجب الانتباه إلى أن لكل معلمٍ غنوصي تجربته العرفانية الخاصة، وبالتالي له تياره الفكري الخاص ومدرسته الخاصة، والتي تختلف غالباً عن مدارس المعلمين الغنوصيين الآخرين، وهذا ما يجعل الغنوصية بعيدةً عن العقيدة الثابتة، ولهذا يعتبر الكثير من علماء الأديان أن الغنوصية هي من الديانات الباطنية.

الطقوس الدينية عند الغنوصيين

لا يعترف الغنوصيون بجميع أشكال |الطقوس الدينية|، فهم يرونها موضوعةً بكافة أشكالها من قبل الإله المادي الأدنى، وفكرهم يقوم أصلاً على نبذ ذلك الإله والتوجّه نحو الإله الحقيقي النوراني، ولذلك ترى الغنوصية بأن خلاص البشرية يأتي عن طريق العرفان وليس عن طريق أداء الطقوس الدينية.

الغنوصية والأخلاق

لا شك في أن الأخلاق هي من أهم الأركان الثانوية لأية ديانة، وتختلف الغنوصية عن غيرها في نظرتها إلى الأخلاق، فهي ترى بأن أسلوب الأمر والنهي أو الترهيب والوعيد التي تتبناه الأديان لا يمكن أن يؤدي إلى أخلاقٍ حميدة، فالأخلاق الحميدة تأتي من الحرية المقترنة بالمعرفة، فعندما يتعرّف الانسان على الإله الحقيقي بكل خيره ورحمته، فأنه سيمتثل للأخلاق الحميدة بدافعٍ من نور ذلك الإله وحبّاً فيه وليس خوفاً من العقاب.
نظرة عابرة على الغنوصية وأهم ما دار حولها - تصميم ريم أبو فخر
نظرة عابرة على الغنوصية وأهم ما دار حولها
 تصميم ريم أبو فخر
بعد الحديث عن أركان الغنوصية الأساسية وبعض أركانها الثانوية، يمكن أن نلحظ بأن |الصوفيون| يلتقون مع الفكر الغنوصي في عدة أمور، ولعلّ أهمها أن الصوفيون يعتقدون بأن على الانسان أن يتحلًى بالأخلاق الحميدة وأن يجنح إلى أفعال الخير من باب حبه لله وليس بسبب الخوف منه أو من النار، ولا حتى طمعاً في دخول الجنة.

من أين جاءت معلوماتنا عن الغنوصية

تأتي جميع معارفنا عن الغنوصية من خلال مصدرين أساسيين، المصدر الأول هو مجموعة الكتب التي تناولت الغنوصية وتحدثت عنها، ومن أشهرها كتابات الآباء الأوائل للكنيسة عن الغنوصية، والتي كانت تنتقد الغنوصية وخاصةً ما يسمى بالغنوصية المسيحية، خلال فترة ازدهارها في القرنين الثاني والثالث الميلادي، والتي ترجع أهميتها إلى كونها المصدر الوحيد لعلماء الأديان حتى العصر الحالي، والمصدر الثاني هو الكتب الغنوصية نفسها والتي بدأت تظهر حديثاً مثل مخطوطات نجع حمادي، ونصوص هرمس التي تتقاطع كثيراً مع الغنوصية، بجانب بعض الأفكار الغنوصية التي نجدها في |الديانات الإبراهيمية| والديانات الشرقية الأخرى ك|المندائية| و|المانوية|.

ما حقيقة غموض الغنوصية

هناك رأيان علميان حول ماهية الغنوصية وحقيقتها، ويقول الرأي الأول بأن الغنوصية لا تزيد عن كونها مذهبٌ أو تيارٌ فكري مسيحي، نشأ في فترة ازدهار المسيحية وانتشارها في القرنين الثاني والثالث الميلادي، ويعتمد هذا الرأي على انعدام وجود أية مخطوطاتٍ غنوصيةٍ أقدم من ذلك التاريخ، أما الرأي الثاني فيقول بأن للغنوصية أصولٌ أقدم من المسيحية ويبرّر ذلك بوجود الكثير من التقاطعات والتأثيرات المتبادلة بين الغنوصية والديانات القديمة كاليهودية والمندائية.

ما سر التشابه بين الغنوصية واليهودية

يوجد رأيان حول هذا الموضوع أيضاً، فهناك من يقول بأن الغنوصية نشأت أصلاً على يد مجموعةٍ من الأشخاص والمفكرين اليهود، بينما يرى الرأي الآخر بأن الغنوصية نشأت في بيئةٍ جمعت بين الثقافات المختلفة مثل |اليهودية| والمسيحية والإغريقية والشرقية القديمة، أي في بيئةٍ مشابهةٍ لبيئة الإسكندرية التي كانت مركز الحضارة الهلنستية في القرنين الثاني والثالث الميلادي، وكانت ملتقى لجميع تلك الثقافات فشكّلت بيئةً خصبةً لظهور مثل هذه الأفكار، والدليل على ذلك هو أن معظم المدارس الغنوصية ظهرت في الإسكندرية، وهذا هو الرأي الغالب عند معظم علماء الأديان.
بذلك نكون قد شرحنا بعض أهم تفاصيل الأفكار الغنوصية، وتحدثنا عن بعض التشابهات بينها وبين بعض الأديان الأخرى، فإذا وجدت معنا ما يعجبك فنرجو أن تشارك المقال.
 
بقلمي: سليمان أبو طافش

إرسال تعليق

كُن مشرقاً بحروفك، بلسماً بكلماتك

يتم التشغيل بواسطة Blogger.