مؤسسة سطر لصناعة المُحتوى العربي 10/25/2021 07:10:00 م 1 Comments

عشر أيام مع رائحة الموت

عشر أيام مع رائحة الموت
عشر أيام مع رائحة الموت
تصميم الصورة : ندى حمصي


كيف أصبحت بهذه الحالة


 جاثياً على ركبتي مُوطِیءَ الرأس، عيناي تنظر بجهة واحدة ولا تلتفت، سماء تمطر وماؤها يمتزج مع دموعي المنهمرة، ضجيج من حولي، وكأنَّ أذناي قد أغلقت كل المنافذ السمعية لتفتح منفذاً واحدا وهي أصوات التخبط و|الفشل المدوي| في رأسي، يداي تعجز حتى عن مسح الدموع وقدماي بالاسم فقط أملكهم فهما لاحول ولا قوة...ذالك كان حالي في تلك اللحظة السوداوية المشؤومة، وبقيت حوالي الساعة على تلك الحالة، حتى أتى صديق لي وأخذني إلى منزله.


كان يوماً بارداً من إحدى ليالي الشتاء..كيف دهمني الوقت وأصبحت على هذه الحالة؟! ، لم أكن أدري أأعيش الواقع أم أنه مجرد وهم! ، وصداع رأسي يبعثر ما تبقى من قوتي سدى، يا إلهي ما بفاعل!


قبل عشر أيام من انهياري هذا....


في عام 2018م ، كنت طالبا في السنة السادسة لكلية الطب البشري في جامعة دمشق، أقنط في حي فقير من ضواحي ريف دمشق، كان حيّنا مليئا بأصوات الرعب ورائحة الموت، فطبول الحرب عندنا تقرع باستمرار، وفي يوم من الأيام لم أستطع الذهاب إلى امتحاني في الجامعة، بسبب كثرة الرصاص الذي ينهمر كسيلان من المطر، كنت أنا وعائلتي في المنزل، والدتي ماسكة السُبحة وتتلو الأذكار والأوراد، ووالدي ينظر من شبابيك المنزل خوفا لاقتحامه، وأخواتي الصغار يعانقون والدتي كأنها المأمن الوحيد لهم في هذا العالم، وأنا فقط أذكر الله وأراقب الوضع مع والدي، حتى سمعنا أهالي الحي يقولون( هجموا..هجموا..) و|أصوات الصياح| تعلوا في كل مكان، أصابنا الرعب، لم ندري من هجم، وإلى أين، وما الذي سيحصل؟!


وفجأة، قُرع باب المنزل بقوة، والدي أراد أن نختبئ بالخزن، بأي مكان المهم لا يرانا أحد، وأنا وقفت بجانبه قائلا له:(دعني أقف معك فبالله ما أصابك يصيبوني)، صرخ بوجهي محاولا إبعادي لكنه لم يستطع، ونحن على هذا النقاش كُسِرَ الباب ، مقتحمين طمأنينة منزلنا بغطرسة أقدامهم ضربوا أبي وضربوني مباشرة حتى جثونا على الأرض، وجدوا والدتي وأخواتي الصغار، وقاموا باصطفافهم جانب بعضهم البعض، وقال أحدهم:(هذه |الطائفة| الخارجة عن الدين يجب ألا تعيش)، قيدوني وقيدوا والدي، ووجهوا مسدسهم المملوء بحقد الشيطان وقذارة هذا العالم، صوب والدتي وأطلقوا رصاصة غدر برأسها، لم تصمد ثانية حتى همدت روحها وجسمها الطاهر وقع على الأرض بصوت أصابنا كلنا بالسكوت، لم أعد أسمع لم أعد أتكلم، عيناي احمرتا، دموعي أصبحت حارقة، وبدأت بالصياح محاولا بأقصى جهدي فك وثاقي، وأخواتي يبكون من حولي ، لم يكملوا الثلاث ثواني حتى قتلوا أخوتي أيضا (طلقة..طلقة..طلقة)، هنا تمنيت لو رأسي أفتلغ من مكانه ولم أرى ما حدث، أبي من هول الموقف جثا رأسه بين أحضاني، في هذه الثانية لم أعد قادرا على الإدراك، تربط لساني، وجسمي يرتجف ويرتعش، ودموعي تنهمر من غير أن أشعر، وبعدها أخذوني معهم أنا ووالدي ووضعنني في سيارة مغلقة لم أعلم إلى أين.


وأنا في السيارة  مع والدي، ومشهد موت عائلتي لم يغادر عقلي، لم أستطع التنفس جيدا، ودقات قلبي في تسارع، وحرقة وغصة لم أشهد مثلها يوما، لدرجة أنني أتعرق شيئا فشيئا حتى تحممت بعرقي المسموم، نزلنا من السيارة ضربا ووجدت نفسي في مكان شبه صحراء، وبالطبع ما زلت لا أستطيع الحركة، أخذونا أنا وأبي إلى مكان تحت الأرض، سجن مهما علت الأصوات ستظل مخفية، وعلى جدرانه الدماء، وأصوات الصياح من قبل الرجال مرعبة أكثر من النساء، كأنها |جهنم الله| على الأرض، وحبسونا في زنزانة مع أناس بدت وجوههم مرهقة تعيسة، طالبة الموت أرحم مما هم فيه.


بقينا محبوسي القدر لمدة ثمان أيام، طبعا آثار الصدمة التي حلت بي كثيرة، وأكثرها وضوحا نطقي لم يعد سليما، فأصبحت أتلعثم في الكلام، كل يوم من حبسنا، يُرمی لنا طعام الكلاب لا ترضى أكله، وفي كل ليلة ضرب لأجسادنا بكل الطرق التي غطها الدماء من كل مكان، ولا شمس تسطع علينا،ولا هواء نقي يساعد رئتينا على التنفس، اعتقدنا إنها النهاية، وأسوأ نهاية، كنا نطلب الموت أرحم من هذا العذاب، حتى في صباح اليوم التاسع سمعنا أصوات الرصاص قد ارتفعت من حولنا وقذائف الموت تنهمر وإيقاعها المدوي يغطي علينا أصواتنا حتى، ورأينا الجيش السوري قد دخل علينا محاولا فك قيدنا.


لأول مرة منذ ثمان أيام أرى ضوء الشمس

وأستنشق هواء صافيا، وأحمل أبي بين يدي، لم يعد يستطيع الحركة، وهو بالأصل مصاب بالربو، وحالته تسوء أكثر، أخذت والدي لسيارة الإسعاف قبل كل شيء، لكن بعد عشر دقائق من خروجنا قد رجع إلى خالقه وترك لي الخوف والحزن والدمار، ركبت معهم بالسيارة عائدا إلى دمشق، فقد تبين أنهم (أرهابين) وأخذونا إلى منطقة في الريف الغربي بعيدة عن العاصمة، وبعد بضع ساعات دفنت والدي بيداي هاتين، وعقلي من تسع أيام إلى الآن لم يعد قادرا على التفكير، كأني دمية هامدة فقط تتحرك،ولساني قد انعوج، بعدها لم أعلم إلى أين أذهب، كان داخل رأسي ذلك المشهد المرعب وأصوات أخواتي الصغار فقط، بعض من شباب الهلال الأحمر بوقتها أرادوا أخذي إلى مركز إيواء، لكنني هربت ونمت في حديقة من حدائق دمشق، حتى في صباح اليوم العاشر، وجدني صديق لي وأخذني إلى منزله.


هذه قصة صديقي محمد التي رواها لي، وكنت أنا من وجده وأخذته إلى منزلي، محمد بقي مصدوما لسنة لم يستطع التكلم ولا الأكل ودائما مقيد النظر، أتى أقربائه إلينا وحاولوا أخذه إلى طبيب نفسي، أردت أن يبقى محمد في منزلنا،  فهو أعز صديق  قدمته الجامعة لي، وفي السنة التي تليها، عاد محمد إلى رشده شيئا فشيئا، وحضر الامتحانات الأخيرة، وتخرجنا سوية، واليوم هو في ألمانيا يكمل الاختصاص، وقد تزوج وأنجب طفلا إلى الآن، لكنه إلى الآن يعاني من أرق أحيانا، وعندما يغضب لم يعد يستطيع التحدث جيدا، وآثار نفسية أخرى يحاول الخروج منها.


هذه قصة من قصص الرعب الحقيقي الذي شهده سكان سوريا أثناء الحرب، لا أحد يدري كمية المعاناة التي شعرنا بها، عن الحزن،الخوف،تمني الموت....كلها جعلت من شعبنا ميتا من الداخل، انظر حولك كم من الناس والشباب تريد السفر، أصبحت الأماكن مهجورة كقلوبنا الباردة، هل من يوم نرى الضحكات تُرسم على وجهنا ونشعر بدفئها،وتلون القلوب بألوان الحياة من جديد.


سلام على قلبك يا دمشق...حتى يهدأ.



بقلمي أحمد القادري ✍️

تصميم الصورة : ندى حمصي  🖌️

إرسال تعليق

كُن مشرقاً بحروفك، بلسماً بكلماتك

يتم التشغيل بواسطة Blogger.